التوحيد-
الفرق بين توحيد العارفين وتوحيد المتكلمين
سئل شيخنا التجاني رضي الله عنه عن قول صاحب " الإبريز " في آخر الباب الثاني منه و نصّه :
" علّمني رضي الله عنه توحيد الصوفية العارفين بالله ؛ وقال لي :" هذا الذي كانت عليه صحابة النبي صلى الله عليه و سلم و جميع السلف الصالح. ".
فقلت بعد أن علمت إشارته رضي الله عنه :" يا سيدي لو علم الناس هذا الحقّ في التوحيد ، ما افترقت الأمّة إلى ثلاث و سبعين فرقة !"
فقال :" نعم ! وهو الذي أراد النبي صلى الله عليه و سلم كتابته عند وفاته حتى لا تضل أمّته من بعده
أبدا ."
فقال السائل :" يا سيدنا ما مراده بهذا التوحيد ؟ هل وحدة الوجود كما سمعناه منكم رضي الله عنكم في توحيد العارفين أو المراد توحيد المتكلمين ؟
فإن كان الأول ؛ فلا يمكن أن يختلف فيه اثنان، وقد علمتم رضي الله عنكم أنّ أهل الظاهر يحيلونه ويكفرون معتقده .
و إن كان الثاني: فلا يمكن أن يكون صاحب "الإبريز" جاهلا به قبل ذلك ، ولم يسلمه بقية أهل السنة رضي الله عنهم فكيف يختلفون فيه ؟ وإذ كان غير توحيد المتكلمين الذي لا يجهله ابن مبارك ، فما بالهم لم يظهروه في الكتب و الدواوين حتى يعمّ نفعه لصلاح الأمّة و رشدها به ، حتى جعلوه كالسرّ الذي ينبغي كتمانه؟ و هل يسوغ كتمان التوحيد الحقيقي المنجي في الدارين ظاهرا و باطنا ؟ "
فأجاب رضي الله عنه بقوله :
"أمّا توحيد المتكلمين : فهو دفع الشبه القادحة في صحة التوحيد من كل ما يوجب نقصا ، أو سلب كمال أو جهلا في وصف الباري سبحانه و تعالى ، و دفع هذه كلها إنّما هو بالحجج العقلية القائمة على المقدمات اليقينية ، فأصحابه في تعب عظيم من كثرة توارد الشُبه و ما يصحبها من كثرة الوساوس و التّخليط.
و أما توحيد العارفين : فهو عبادة إله واحد بالرضا، و التسليم بحكم إله واحد، فلا يعتمد في أموره إلاّ على إله واحد، و لا يتوجه بهمته و قلبه إلاّ إلى إله واحد، ولا يعوّل في جلب مصالحه و دفع مضاره
إلاّ على إله واحد ، فيتبرأ من حوله و قوّته للحول و القوّة المتصرف بهما إله واحد ، و لا يحب إلاّ إلها واحدا و لا يشتاق في جميع مآربه إلا إلى إله واحد ، و يجعل مبدأ قصده و غاية مطلبه ووسط ما يسلكه بين المبدأ و الغاية هو الإله الواحد.
وفي كلّ هذا مفارقة الهوى ظاهرا و باطنا و عينا و أثرا إلى الغاية القصوى من تلبيسات النفس و الهوى و الشيطان ،و متى وقع منه ولو أقل قليل من متابعة الهوى و لو مثقال ذرة أو هبأة ما وحّد الإله !
ولا صفت له العبودية لإله واحد. ثم إذا صحّ له هذا التوحيد و تشيد له حسنه، و استقر فيه و غرق في بحر الرضا و التسليم، علما منه أنّ الإله الواحد لا يصح الخروج عن حكمه، حلوه و مره خيره و شره، ولا اختيار لأحد معه، فإن اختار معه كان إلها معه.
فمن صح له ما تقدم من الأوصاف المذكورة إستراح من معاناة المقادير، و جلس على بساط النعيم و التنعيم ، بخلعه لحلل التعب بما كان فيه من نكد التدبير، فهناك يجلس مع الله على بساط القرب و المؤانسة، فلا تسأل عمّا يجده من المنح و المواهب و بلوغ الآمال ووجوه الرغائب من العز و المجد الأقصى و المكارم التي لا تعدّ و لا تحصى.
فهذا هو توحيد العارفين الذي لما ذكره مولاي عبد العزيز الدباغ لصاحبه العالم الكبير سيدي أحمد بن مبارك إسـراح من تعب ما كان فيه دفع الشبه التي تتوارد على المتكلمين، لأن توحيد العارفين لا تلحقه شبهة
و مثالهما مثال شخصين :
أحدهما توغلت فيه معضلة الأدواء ، و كلما زال منه شيء جاءه أعظم منه فلأجلها اعتنى بالبحث في كتب الطبّ و معرفة العلل و أصولها من أين نشأت و معرفة الأدوية المزيلة لتلك العلل وكيفية تناولها كما و كيفا ووقتا و إفرادا و تركيبا.
فهو في تعب عظيم من معانات هذه العلوم ، و متى أخطأ في شيء منها وقع له الضرر، و قد فاته أكثر مطالبه لاشتغاله بهذا العلم و فنونه.
أما الآخر، فقد نشأ كامل الصحة و القوة ، وقد سلمه الله من جميع الآفات و عوارض البليات ولم تقع عليه آفة قط و لا رآها فتغافل عن جميع علم الطب و عن جميع مقتضياته و لوازمه .
فإذا لامه الأول بهذا و قال له : "جهلك بالطب فيه ضرر عليك! " . قال له الآخر:" إنّه يحتاج للطبّ أمثالك! الذين توغلت فيهم العلل؛ أما أنا فلا أعرف الداء فليس لي حاجة إلى الدواء." ."
وأما قوله :" إذا كان غير توحيد المتكلمين الذي لا يجهله ابن مبارك ، فما بالهم لم يظهروه في الكتب و الدواوين ليعم نفعه الخ..؟"
الجواب : إنهم ما كتموه! وإنّ ذلك التوحيد هو الذي بعثت به الرسل كلهم . وهو الذي يظهرونه لعامّة الخلق و إنّما تُرك و دُرست طريقه لإعراض عامة الناس عنه، لميلهم إلى شقاشق علم الكلام و البحث في قواعده و أصوله بالحجج العقلية و المقدمات اليقينية ظنا منهم أنّ هذه هي الغاية القصوى
في التقرب إلى الله و كمال العلم به و جهلوا أنّ ذلك هو غاية البعد عن الله و الضلال .
و السبب الذي أوقع العامة في هذا هو : مخالطة أهل علم الكلام لأهل علم الفلسفة فوجدوهم قرروا في علومهم أنّ علم التوحيد الحق هو البحث في العلم الإلهي بالقواعد العقلية والمقدمات المنطقية ، فصرفهم الله بذلك عن معرفة الحق و عن التقرب بما يقرّب إلى الله و معرفة جلاله و حيث كان الصحابة لم يخالطوا هذا العلم كانوا قائمين على توحيد الرّسل ، الذي كان جنى ثمرته و ذوق حلاوة يانعه من صريح الأخبار الإلهية بما في كتب الله التي بعثها إلى خلقه مع رسله ، و ما نطقت به رسله في تعليم العامة من العلم بالله و معرفة عظمته و جلاله .
فلما دخل على الصدر الثالث علوم الفلسفة و سمعوا فيها من فن التوحيد شقاشق غريبة تستحبّها نفوس أهل الفضول المعرضين عن الله تعالى ، و كل من حصّلها منهم صال بها في العامة و الجاهلين بها، مدّعيا أنّ الذي وصل إليه في مرتبة العلم هو الغاية القصوى في العلم بالله و معرفة جلاله ، و يصرحون للعامة أن من لا يعلمها كأنه لا يعلم شيئا من العلم، فتبعتهم نفوس العامة لشدة ميلها إلى الفضول ، حيث رأوا لهم التعظيم البالغ في قلوب الملوك و الأمراء و العامة .
و بتتابع الأعصار خلف عن سلف من غير معارض و لا زاجر، نُسي علم التوحيد الذي بُعثت به الرّسل، و صار السالكون على توحيد الفلاسفة هم المسمون بأهل الكلام، و السالكون على توحيد الرّسل هم المسمون بالصوفية.
و أما من تنزّل إلى فنّ علم الكلام من العارفين كالأشعري و السنوسي و أمثالهما رضي الله عنهم إنّما أرادوا الرفق بالعامة ، لما كان توحيد الرّسل لا يستجيبون له إلاّ بالسيف ، تنزّلوا لهم بتقرير حجج عقلية يدركونها في نفوسهم ليستجيبوا بذلك لأمر الله باختيارهم ، و رأوا أنّ ذلك خير من السيف لكون صاحبه لا يدخل في الدّين إلاّ قهرا أو جبرا. فهذا هو السبب الذي حملهم على التنزّل إلى فن ّّعلم الكلام .
كتاب إفادة التجاني
Tiada ulasan:
Catat Ulasan